فصل: أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إِنَّ الْأَعَاجِمَ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ عَلَى أَيْدِي الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ قَدْ فَهِمُوا أَنَّ لِلْإِسْلَامِ لُغَةً خَاصَّةً بِهِ، لابد أَنْ تَكُونَ عَامَّةً بَيْنَ أَهْلِهِ لِيَفْهَمُوا كِتَابَهُ الَّذِي يَدِينُونَ بِهِ وَيَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ، وَيَعْبُدُونَ اللهَ بِتِلَاوَتِهِ؛ وَلِتَتَحَقَّقَ بَيْنَهُمُ الْوَحْدَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ فِيهِ: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (21: 92) وَيَكُونُوا جَدِيرِينَ بِأَنْ يَعْتَصِمُوا بِهِ وَهُوَ حَبْلُ اللهِ فَلَا يَتَفَرَّقُوا، وَلِتَكْمُلَ فِيهِمْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ الَّتِي حَتَّمَهَا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (49: 10)؛ وَلِذَلِكَ انْتَشَرَتِ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ فِي الْبِلَادِ الَّتِي فَتَحَهَا الصَّحَابَةُ بِسُرْعَةٍ غَرِيبَةٍ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ مَدَارِسَ وَلَا كُتُبٍ وَلَا أَسَاتِذَةَ لِلتَّعْلِيمِ، وَاسْتَمَرَّتِ الْحَالُ عَلَى ذَلِكَ فِي زَمَنِ الْأُمَوِيِّينَ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ وَفِي أَوَّلِ مُدَّةِ الْعَبَّاسِيِّينَ حَتَّى صَارَتِ الْعَرَبِيَّةُ لُغَةَ الْمَلَايِينِ مِنَ الْأُورُبِّيِّينَ وَالْبَرْبَرِ وَالْقِبْطِ وَالرُّومِ وَالْفُرْسِ وَغَيْرِهِمْ فِي مَمَالِكَ تَمْتَدُّ مِنَ الْمُحِيطِ الْغَرْبِيِّ الْأَتْلَانْتِيكِ إِلَى بِلَادِ الْهِنْدِ، فَهَلْ كَانَ هَذَا إِلَّا خَيْرًا عَظِيمًا تَآخَتْ فِيهِ شُعُوبٌ كَثِيرَةٌ، وَتَعَاوَنَتْ عَلَى مَدَنِيَّةٍ كَانَتْ زِينَةً لِلْأَرْضِ وَضِيَاءً وَنُورًا لِأَهْلِهَا.
ثُمَّ هَفَا الْمَأْمُونُ فِي الشَّرْقِ هَفْوَةً سِيَاسِيَّةً حَرَّكَتِ الْعَصَبِيَّةَ الْجِنْسِيَّةَ فِي الْفَرَسِ فَأَنْشَؤُوا يَتَرَاجَعُونَ إِلَى لُغَتِهِمْ، وَيَعُودُونَ إِلَى جِنْسِيَّتِهِمْ، وَجَاءَ الْأَتْرَاكُ فَفَعَلُوا بِالْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ مَا فَعَلُوا، فَسَقَطَ مَقَامُ الْخِلَافَةِ وَتَمَزَّقَ شَمْلُ الْإِسْلَامِ بِقُوَّةِ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ، وَلَكِنْ لَمْ تَصِلِ الْفِتْنَةُ بِالنَّاسِ إِلَى إِيجَادِ قُرْآنٍ أَعْجَمِيٍّ لِلْأَعَاجِمِ، وَإِبْقَاءِ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الْمُنَزَّلِ خَاصًّا بِالْعَرَبِ، بَلْ بَقِيَ الدِّينُ وَالْعِلْمُ عَرَبِيَّيْنِ وَرَاءَ إِمَامِهِمَا الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ.
فَالْوَاجِبُ عَلَى دُعَاةِ الْإِصْلَاحِ فِي الْإِسْلَامِ الْآنَ أَنْ يَجْتَهِدُوا فِي إِعَادَةِ الْوَحْدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ خَيْرِ قُرُونِ الْإِسْلَامِ، وَأَنْ يَسْتَعِينُوا عَلَى ذَلِكَ بِالطُّرُقِ الصِّنَاعِيَّةِ فِي التَّعْلِيمِ، فَيَجْعَلُوا تَعَلُّمَ الْعَرَبِيَّةِ إِجْبَارِيًّا فِي جَمِيعِ مَدَارِسِ الْمُسْلِمِينَ وَيُحْيُوا الْعِلْمَ بِالْإِسْلَامِ بِطَرِيقَةٍ اسْتِقْلَالِيَّةٍ لَا يَتَقَيَّدُونَ فِيهَا بِآرَاءِ الْمُؤَلِّفِينَ فِي الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ الْمُخَالِفَةِ لِطَبِيعَةِ هَذَا الْعَصْرِ فِي أَحْوَالِهَا الْمَدَنِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَلَكِنَّنَا نَرَى بَعْضَ الْمَفْتُونِينَ مِنَّا بِسِيَاسَةِ أُورُبَّا يُعَاوِنُونَهَا عَلَى تَقْطِيعِ بَقِيَّةِ مَا تَرَكَ الزَّمَانُ مِنَ الرَّوَابِطِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِتَقْوِيَةِ الْعَصَبِيَّاتِ الْجِنْسِيَّةِ حَتَّى صَارَ بَعْضُهُمْ يُحَاوِلُ إِغْنَاءَ بَعْضِ شُعُوبِهِمْ عَنِ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ! أَلَّا إِنَّهَا فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ وَقَى اللهُ الْمُسْلِمِينَ شَرَّهَا. فَهَذَا مَا أَقُولُهُ الْآنَ فِي تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ لِلْمُسْلِمِينَ دُونَ تَفْسِيرِهِ لَهُمْ بِلُغَتِهِمْ مَعَ بَقَائِهِ إِمَامًا لَهُمْ، وَدُونَ تَرْجَمَتِهِ لِدَعْوَةِ غَيْرِهِمْ بِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ مَعَ أَنَّ الْمُتَرْجِمَ بَيَّنَ الْمَعْنَى الَّذِي يَفْهَمُهُ هُوَ. انْتَهَتِ الْفَتْوَى.
وَمُلَخَّصُ هَذِهِ الْفَتْوَى: أَنَّ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ تَرْجَمَةً حَرْفِيَّةً مُتَعَذِّرَةٌ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ كَثِيرَةٌ، فَهُوَ مَحْظُورٌ لَا يُبِيحُهُ الْإِسْلَامُ؛ لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى التَّرْجَمَةُ قُرْآنًا وَلَا كِتَابَ اللهِ، وَلَا أَنْ يُسْنَدَ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَيْهِ تَعَالَى فَيُقَالُ قَالَ: اللهُ كَذَا؛ لِأَنَّ كِتَابَ اللهِ وَقُرْآنَهُ عَرَبِيٌّ بِالنَّصِّ الْقَطْعِيِّ وَالْإِجْمَاعِ الشَّرْعِيِّ مِنْ سَلَفِ أَهْلِ الْمِلَّةِ كُلِّهِمْ وَخَلَفِهِمْ لَا الْإِجْمَاعِ الْأُصُولِيِّ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ؛ وَلِأَنَّهَا لَيْسَ لَهَا شَيْءٌ مِنْ خَصَائِصِ الْقُرْآنِ اللَّفْظِيَّةِ وَلَا الْمَعْنَوِيَّةِ كَالْإِعْجَازِ، وَهِيَ لابد أَنْ تَكُونَ مُخَالِفَةً لَهُ فِي الْمَعْنَى كَمُخَالَفَتِهَا فِي اللَّفْظِ، فَإِسْنَادُهَا إِلَيْهِ تَعَالَى كَذِبٌ عَلَيْهِ وَكُفْرٌ بِكِتَابِهِ. بَلْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِبْدَالُ لَفْظٍ مِنْ أَلْفَاظِ الْمُصْحَفِ بِلَفْظٍ آخَرَ يُرَادِفُهُ مِنَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ كَكَلِمَتِي شَكٍّ، وَرَيْبٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} (2: 2) وَأَمَّا التَّرْجَمَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَفْسِيرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرِهِ مِنْهُ بِلُغَةٍ أُخْرَى فَغَيْرُ مُحَرَّمٍ، وَإِنَّمَا تُتَّبَعُ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ الشَّرْعِيَّةُ بِقَدْرِهَا.

.أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ:

تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَتُهُ وَكِتَابَتُهُ بِغَيْرِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ:
الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ وَلَا قِرَاءَتُهُ وَلَا تَرْجَمَتُهُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ مُطْلَقًا، إِلَّا فِيمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبِهِ مِنْ جَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ فِي خُصُوصِ الصَّلَاةِ، وَإِلَيْكَ بَعْضُ النُّصُوصِ فِي ذَلِكَ: قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْحَسَنِ الْمَرْغِينَانِيُّ الْحَنَفِيُّ فِي التَّجْنِيسِ: وَيُمْنَعُ مِنْ كِتَابَةِ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْإِخْلَالِ بِحِفْظِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّا أُمِرْنَا بِحِفْظِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى فَإِنَّهُ دَلَالَةٌ عَلَى النُّبُوَّةِ؛ وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى التَّهَاوُنِ بِأَمْرِ الْقُرْآنِ اهـ.
وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: مَنْ تَعَمَّدَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أَوْ كِتَابَتَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ فَهُوَ مَجْنُونٌ أَوْ زِنْدِيقٌ وَالْمَجْنُونُ يُدَاوَى، وَالزِّنْدِيقُ يُقْتَلُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُخَارِيِّ اهـ.
وَفِي الدِّرَايَةِ: إِنَّ الْقُرْآنَ اسْمٌ لِلنَّظْمِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ أُنْزِلَ حُجَّةً عَلَى النُّبُوَّةِ وَعَلَمًا عَلَى الْهُدَى، وَالْهُدَى بِمَعْنَاهُ، وَالْحُجَّةُ بِنَظْمِهِ. وَكَمَا أَنَّ الْإِخْلَالَ بِالْمَعْنَى يُسْقِطُ حُكْمَ الْقِرَاءَةِ كَذَلِكَ الْإِخْلَالُ بِالنَّظْمِ، وَلِأَنَّ حِفْظَ الْقُرْآنِ وَاجِبٌ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِيُكُونَ حُجَّةً عَلَى الْحُكْمِ وَلَا قِرَاءَةَ تَجِبُ إِلَّا فِي الصَّلَاةِ، فَعُلِمَ أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِعَيْنِ مَا أُنْزِلَ لِيَقَعَ الْحِفْظُ بِهَا اهـ.
وَرَوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا: جَوَازُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ مُطْلَقًا، وَعَنِ الصَّاحِبَيْنِ: إِذَا كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، أَمَّا إِذَا كَانَ يُحْسِنُهَا فَلَا يَجُوزُ، وَتَفْسَدُ صَلَاتُهُ إِذَا قَرَأَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: رُجُوعُ الْإِمَامِ إِلَى قَوْلِهِمَا وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ- وَقَالَ الْإِمَامُ الزَّاهِدِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إِنَّ مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ مِنْ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ تُفْسِدُ الصَّلَاةَ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ، أَمَّا عِنْدُ الْعَجْزِ فَلَا فَسَادَ إِذَا قَرَأَ بِالْفَارِسِيَّةِ كُلَّ لَفْظٍ بِمَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ شَيْئًا. أَمَّا إِذَا قَرَأَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْسِيرِ فَتَفْسَدُ صَلَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ اهـ.
وَهُوَ تَقْيِيدٌ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ وَهُوَ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ.
وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي بَدَائِعِ الصَّنَائِعِ وَأَحْكَامِ الْقُرْآنِ لِحُجَّةِ الْإِسْلَامِ الْجَصَّاصِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (73: 20) حَيْثُ أَمَرَ بِالْقِرَاءَةِ، وَالْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَلَا مَوْضِعَ لِوُجُوبِ الْقِرَاءَةِ غَيْرُ الصَّلَاةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ، فَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَرَأَ بِالْفَارِسِيَّةِ وَهُوَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، فَقَدْ قَرَأَ مَا لَيْسَ بِقُرْآنٍ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ الْفَارِسِيَّ لَيْسَ قُرْآنًا، وَالْقُرْآنُ هُوَ الْمُنَزَّلُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (12: 2) وَأَيْضًا فَالْقُرْآنُ هُوَ الْمُعْجِزُ، وَالْإِعْجَازُ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ يَزُولُ بِزَوَالِ النَّظْمِ الْعَرَبِيِّ فَلَا يَكُونُ الْفَارِسِيُّ قُرْآنًا لِانْعِدَامِ الْإِعْجَازِ؛ وَلِهَذَا لَمْ تُحَرَّمْ قِرَاءَتُهُ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ، غَيْرُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، فَقَدْ عَجَزَ عَنْ مُرَاعَاةِ لَفْظِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ مَعْنَاهُ؛ لِيَكُونَ التَّكْلِيفُ بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ اهـ- وَالْمُرَادُ مُطْلَقُ الْمَعْنَى، وَإِلَّا فَمَعْنَى النَّظْمِ الْمُعْجِزِ لَا تُؤَدِّيهِ التَّرْجَمَةُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.
وَلَا يَعْنِينَا الْآنَ بَيَانُ وَجْهِ اسْتِدْلَالِ الْإِمَامِ بِالْآيَةِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ صَحَّ رُجُوعُهُ إِلَى قَوْلِ الصَّاحِبَيْنِ.
فَظَهَرَ أَنَّ قَوْلَ الثَّلَاثَةِ بِجَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ لِمَنْ لَا يُحْسِنُهَا لَيْسَ مَبْنَاهُ أَنَّ التَّرْجَمَةَ تَصِيرُ قُرْآنًا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ أَدَائِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَيُفْرَضُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، بَلِ الْمَفْرُوضُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ تَعَلُّمُ الْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ الْقُرْآنُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالْمَعْنَى فِي حَقِّهِ لِعَجْزِهِ، وَلِأَنَّهُ الْمَيْسُورُ لَهُ مِنْ مَعْنَى الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ مَجْمُوعُ النَّظْمِ وَالْمَعْنَى الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الصَّلَاةِ. وَلَمَا كَانَ أَدَاءُ الْمَفْرُوضَ مَوْقُوفًا عَلَى النَّظْمِ الْعَرَبِيِّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَيْسُورًا لَهُ أَتَى بِالتَّرْجَمَةِ بَدَلًا عَنْهُ؛ لِتَقُومَ مَقَامَهُ فِي أَدَاءِ الْمَعْنَى الْمَفْرُوضِ، مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ قُرْآنًا؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ كَلَامُ اللهِ، الْمُنَزَّلُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَالتَّرْجَمَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ- وَفِي الدِّرَايَةِ قِرَاءَةُ غَيْرِ الْعَرَبِيِّ تُسَمَّى قُرْآنًا مَجَازًا، أَلَّا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ نَفْيُ الْقُرْآنِ عَنْهُ فَيُقَالُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَرْجَمَتُهُ، وَإِنَّمَا جَوَّزْنَاهُ لِلْعَاجِزِ إِذَا لَمْ يُخِلَّ بِالْمَعْنَى، لِأَنَّهُ قُرْآنٌ مِنْ وَجْهٍ بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَعْنَى، فَالْإِتْيَانُ بِهِ أَوْلَى مِنَ التَّرْكِ مُطْلَقًا؛ إِذِ التَّكْلِيفُ بِحَسْبِ الْوُسْعِ اهـ.
وَظَاهِرٌ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ، وَمَسْأَلَةُ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَتِهِ بِغَيْرِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مُطْلَقًا شَيْءٌ آخَرُ، وَالْكَلَامُ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الْأَوَّلِ عَلَى فَرْضِ تَسْلِيمِهِ جَوَازُ الثَّانِي، حَتَّى يُنْسَبَ إِلَى الْإِمَامِ وَصَاحِبَيْهِ الْقَوْلُ بِجَوَازِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَتِهِ خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَكِتَابَتِهِ بِغَيْرِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَكَيْفَ ذَلِكَ وَقَدْ أَجْمَعَتْ كُتُبُهُمْ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِي خُصُوصِ الصَّلَاةِ. وَأَصْلُهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْقِرَاءَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي الصَّلَاةِ دُونَ غَيْرِهَا كَمَا أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (73: 20) وَالْقُرْآنُ الْمَعْرُوفُ هُوَ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ خَاصَّةً.
وَفِي شَرْحِ أُصُولِ الْبَزْدَوِيِّ لِلْإِمَامِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَحْمَدَ الْبُخَارِيِّ الْحَنَفِيِّ:
الْقُرْآنُ اسْمٌ لِلنَّظْمِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ النَّظْمَ رُكْنًا لَازِمًا فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ خَاصَّةً، وَإِنَّمَا هُوَ لَازِمٌ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْأُخْرَى، كَوُجُوبِ الِاعْتِقَادِ، وَحُرْمَةِ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَحُرْمَةِ الْمُدَاوَمَةِ وَالِاعْتِيَادِ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِهَا اهـ.
وَقَدْ نُقِلَ أَنَّ الْإِمَامَ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ فِي الصَّلَاةِ أَيْضًا إِلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ جَوَازِ الصَّلَاةِ بِالْفَارِسِيَّةِ مُطْلَقًا، فَيَكُونُ النَّظْمُ رُكْنًا لَازِمًا عِنْدَهُ فِي كُلِّ حَالَةٍ كَمَا ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ الألوسي فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} (26: 196) بِنَاءً عَلَى عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: تَخْصِيصُ الْجَوَازِ بِالْفَارِسِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ اللُّغَاتِ بَعْدَ الْعَرَبِيَّةِ، وَفِي أُخْرَى إِنَّهَا إِنَّمَا تَجُوزُ بِالْفَارِسِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ لِلْعَاجِزِ عَنِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَدْ صَحَّحَ رُجُوعَهُ عَنِ الْقَوْلِ بِجَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ مُطْلَقًا جَمْعٌ مِنَ الثِّقَاتِ الْمُحَقِّقِينَ؛ لِضَعْفِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَخْفَى فَإِنَّ الظَّاهِرَ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي الْآيَةِ عَلَى الْقُرْآنِ بِتَقْدِيمِ مُضَافٍ، أَيْ وَإِنَّ ذِكْرَ الْقُرْآنِ لَفِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ إِنْ فَلَانَا فِي دَفْتَرِ الْأَمِيرِ اهـ. مُلَخَّصًا.
وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ مَا فِي اسْتِدْلَالِ بَعْضِهِمْ بِقَوْلِ الْإِمَامِ عَلَى جَوَازِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ بِأَيِّ لُغَةٍ خَارِجِ الصَّلَاةِ وَدَاخِلِهَا لِلْقَادِرِ وَالْعَاجِزِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى رِوَايَةِ التَّخْصِيصِ بِالْفَارِسِيَّةِ لَا تَجُوزُ بِغَيْرِهَا مُطْلَقًا، وَعَلَى رِوَايَةِ رُجُوعِهِ إِلَى قَوْلِ صَاحِبَيْهِ لَا تَجُوزُ خَارِجَ الصَّلَاةِ مُطْلَقًا، وَلَا لِلْقَادِرِ فِي الصَّلَاةِ، وَعَلَى رِوَايَةِ الثِّقَاتِ عَنْهُ: لَا تَجُوزُ مُطْلَقًا بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا لِلْقَادِرِ وَالْعَاجِزِ وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ رَأْيُهُ الْأَخِيرِ الَّذِي صَحَّ إِلَيْهِ كَمَا هُوَ رَأْيُ الْجَمَاعَةِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ عَلَى جَوَازِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ مُطْلَقًا؟ اهـ (ص31- 36) ثُمَّ قَالَ فِي فَصْلٍ آخَرَ (ص39): وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمُ جَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ لَا يُحْسِنُهَا، وَفِي فَتَاوَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ حَجَرٍ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ- وَقَدْ سُئِلَ هَلْ تَحْرُمُ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ بِالْعَجَمِيَّةِ كَقِرَاءَتِهِ؟ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ قَضَّة مَا فِي الْمَجْمُوعِ عَنِ الْأَصْحَابِ التَّحْرِيمُ، وَوَجْهَهُ بِمَا لَا يَخْرُجُ عَمَّا قَدَّمْنَاهُ فَرَاجِعْهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ الزَّرْكَشِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ رَحِمَهُ اللهُ: الْأَقْرَبُ الْمَنْعُ مِنْ كِتَابَةِ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ كَمَا تَحْرُمُ قِرَاءَتُهُ بِغَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ، وَفِي شَرْحِ الْعُبَابِ أَنَّ كِتَابَةَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ بِالْعَجَمِيِّ تَصَرُّفٌ فِي اللَّفْظِ الْمُعْجِزِ الَّذِي حَصَلَ بِهِ التَّحَدِّي بِمَا لَمْ يَرِدْ بَلْ بِمَا يُوهِمُ عَدَمَ الْإِعْجَازِ بَلِ الرَّكَاكَةَ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ الْعَجَمِيَّةَ فِيهَا تَقْدِيمُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُضَافِ؛ وَذَلِكَ مِمَّا يُخِلُّ بِالنُّظُمِ وَيُشَوِّشُ الْفَهْمَ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ التَّرْتِيبَ مَنَاطُ الْإِعْجَازِ. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي حُرْمَةِ تَقْدِيمِ آيَةٍ عَلَى آيَةٍ يَعْنِي أَوْ كَلِمَةٍ عَلَى كَلِمَةٍ كَمَا يَحْرُمُ ذَلِكَ قِرَاءَةً اهـ.
بَلْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ فِي تَرْتِيبِ حُرُوفِ الْكَلِمَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَمُرَاعَاةِ التَّنَاسُبِ فِيمَا بَيْنَهَا مِنَ الصِّفَاتِ مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ مَا لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ فَضْلًا عَمَّا فِي تَرْتِيبِ الْكَلِمَاتِ وَالْجُمَلِ مِنَ اللَّطَائِفِ وَالْأَسْرَارِ مِمَّا لَا يَحُومُ حَوْلَ بَيَانِهِ لِسَانٌ أَوْ يُدْرِكُهُ جَنَانٌ.
وَمَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ كِتَابَةِ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كُتِبَ بِغَيْرِهَا: هَلْ يَحْرُمُ مَسُّهُ وَحَمْلُهُ لِلْحَائِضِ وَالْجَنْبِ؟ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الْجَوَازِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ، وَنَقْلَ الْعَلَّامَةُ الشَّوْبَرِيُّ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْقُرْآنَ إِذَا كُتِبَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ يَحْرِمُ مَسُّهُ وَحَمْلُهُ لِلْحَائِضِ وَالْجَنْبِ، إِذْ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ قُرْآنًا، وَإِلَّا لَمْ تَحْرُمْ كِتَابَتُهُ اهـ.
وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ مُتَضَمِّنًا مَعْنَى الْقُرْآنِ بِقَدْرِ مَا تَسَعُهُ أَوْضَاعُ اللُّغَةِ الْمَكْتُوبِ بِهَا، وَإِنْ خَرَجَ عَنْ نَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ، وَإِعْطَاؤُهَا حُكْمَ الْقُرْآنِ حَمَلًا وَمَسًّا عِنْدَهُمْ إِنَّمَا هُوَ احْتِرَامٌ لِهَذَا الْقَدْرِ، وَإِلْحَاقٌ لِنُقُوشِ الرَّسْمِ الْعَجَمِيِّ بِالرَّسْمِ الْمَخْطُوطِ الْعَرَبِيِّ مَعَ مُرَاعَاةِ جَانِبِ الْمَعْنَى فِي الْجُمْلَةِ.